أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 آخر الأخبار

سلسلة الحرب العالمية الأولى العدد 10

سلسلة الحرب العالمية الأولى


نتائج الحرب

لم توجد حرب سابقة قامت بتغيير الخريطة السياسية لأوروبا حتى ظهرت هذه الحرب. فقد اختفت الإمبراطوريات الثلاثة: الألمانية والنمساوية المجرية والروسية وأخيرًا الدولة العثمانية. واستعادت العديد من الدول استقلالها وتشكلت دول جديدة أخرى. لقد وقعت السلالات الأربع الحاكمة جنبًا إلى جنب مع الأرستقراطيات الملحقة بها، سلالة آل هوهنتسولرن وهابسبورغ وآل رومانوف والسلالة العثمانية. تضررت بلجيكا وصربيا وفرنسا بشكل كبير جدًّا بضحايا الجنود الذين وصل عددهم 1.4 مليون جندي[283]. دون حسبان الخسائر الأخرى. قال الفرنسيون أن فرنسيًّا واحدً كان يُقتل في كل دقيقة خلال الفترة الواقعة بين نشوب الحرب في أغسطس 1914 إلى فبراير [284]. وتأثرت بالمثل مملكة ألمانيا والإمبراطورية الروسية.[285]
اختل التوازن الإجتماعي بين الذكور والإناث؛ لقد كان القتلى والجرحى خلال الحرب هم من الرجال ومن الشباب بصفة خاصة، بينما كانت خسائر النساء قليلة جدًّا[284] والجدير بالذكر بأن الغالبية العُظمى من ضحايا الحرب كانوا من مواليد الربع الأخير من القرن 19. كان طبيعيًّا أن تهبط نسبة المواليد خلال فترة الحرب لإفتراق الأزواج عن زوجاتهم، وبعد الحرب ارتفعت هذه النسبة بسرعة كبيرة مما أثر على الحركة التعليمية واليد العاملة فيما بعد. فبالنسبة للتعليم واجهت المدارس عام 1930 نقصًا في عدد التلاميذ الذين أعمارهم بين 11-15 سنة. أما من ناحية اليد العاملة فقد وضعت السلطات الفرنسية خطتها لبناء خط ماجينو الدفاعي على أساس أن ينتهي العمل في هذا المشروع عام 1935 حيث أن المجندين للجيش سينقص عددهم إلى نصف العدد المطلوب في كل سنة خلال الفترة بين 1934-1939.[286]
في بعض الدول فقدت الطبقات الاجتماعية الرفيعة أعدادًا من شبانها بشكل مذهل. فقد قدم الشبَّان المتعلمون من الطبقات العُليا في المجتمع عددًا غير متكافئ من الضباط المقاتلين على الأرض. وقدم عدد الشبان اللذين جاءوا من نخبة الجامعات البريطانية مثلأوكسفورد وكمبريدج، واللذين لم يستطيوا النجاة من الحرب دليلًا مروِّعًا على ذلك التعميم. لقد فقد الطلبة 31% من أعضاء هيئة التدريس اللذين التحقوا حديثًا بجامعة أوكسفورد في عام 1913. وكذلك الحال بالنسبة لإحدى المدارس الثانوية الفرنسية والتي فقدت 26 من أصل 27 من طلبتها اللذين كانوا على وشك التخرج عشية عيد ميلاد 1914، والعضو الوحيد الذي بقي حيًّا كان قد أُعفي عن الخدمة العسكرية بسبب مرض ألمَّ به.[287]
أثرت الحرب في سرعة منح المرأة الكثير من حقوقها في وقت مبكر عمَّا كان متوقعًا، فقد كانت المرأة تحصل على حقوقها ببطىء قبل وخلال الحرب. أما بعدها فقد كان هناك ميل واضح من جانب الحكومات لرفع كثير من القيود السياسية والاجتماعية التي كانت مفروضة عليها. ففي بريطانيا تطلبت الحرب بذل كافة الجهود وحشد كل الطاقات من أجل النصر، وحيث أن الجيوش استوعبت ملايين من الشباب أسرعت المرأة إلى أن تحل محله في الأعمال المدنية مثل العمل في المصانع والمتاجر وفي دواوين الحكومة والشركات وفي المستشفيات والمدارس، ومنهن من تطوعن للعمل العسكري. وبذلك تكوت المرأة قد وقفت جنبًا إلى جنب مع الرجل في الكفاح فحق لها أن تحصل على حق الإنتخاب ما إن تبلغ الثلاثين من عمرها.[286]
قدرت خسائر الحرب العالمية الأولى بـ 8,538,315 قتيل، و21 مليون جريح، و7 مليون أسير ومفقود، وقد أتت خسائر روسيا في رأس قائمة الخسائر البشرية تلتها خسائر كل من ألمانيا والنمسا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية.أما أهم الخسائر المادية فقد وقعت في الأراضي التي دارت فيها المعارك حيث أتلفت المحاصيل الزراعية وقضي على المواشي ودمرت مئات آلاف المنازل وآلاف المصانع إضافة إلى الأضرار التي لحقت بالسكك الحديدية ومناجم الفحم التي غمرها هذا الطرف أو ذاك بالماء لمنع استغلالها من قبل العدو. ولذلك كان على الدول المتحاربة في مرحلة السلام إعادة بناء ما دمرته الحرب وتحويل الصناعات الحربية إلى صناعات مدنية. لكن قلة الأموال واليد العاملة التي قضت عليها الحرب عرقلت إلى حد كبير عملية إعادة الاعمار المرجوة.[288]
الخسائر البشرية والمادية
هناك عدة إحصائيات مختلفة تذكر أعداد القتلى التي كلفت الحرب الدول المتحاربة تضحيات كبيرة في الأرواح.
كانت خسائر روسيا في الأرواح هي الأكثر فداحًة إذ بلغت أكثر من مليوني، وخسرت ألمانيا أقل من مليونين بقليل، وفقدت المملكة الثنائية مليونا وربع المليون، وأمَّا بريطانيا وإمبراطوريتها فقدت حوالي المليون، وزادت فرنسا وإمبراطوريتها عنها بنصف المليون أما الولايات المتحدة فخسرت 115 ألف جزء كبير منهم كان بسبب وباء الإنفلونزا الإسبانية التي انتشرت في أوروبا بعد الهدنة.[289]
خسائر الدول في الحرب العالمية الأولى بلغت أكثر من 37 مليون جندي بينهم أكثر من ثمانية ملايين قتيل.[290]
إذا نظرنا إلى عدد سكان الدولة العثمانية قبل انهيارها، فإن مجموع خسائر الدولة العثمانية قد وصل بشكل تقريبي إلى 25٪ من عدد السكان، وهو مايقرب 5 مليون نسمة من أصل 51 مليون من عدد السكان.[291] ولتحديد أكثر دقة فقد أعطى تعداد عام 1914 أن حجم عدد السكان 20,975345 منهم 15,044846 كانوا مسلمون ملي، 187,073 هم يهود ملي و186,152 لا يتبعون أي مجموعة. أما البقية والذين وصل عددهم إلى 5,557,274 فهم متشاركون مع عدد من المجموعات (في نظام ملي).[292] من بين 5 ملايين شخص، كان هناك 771,844 قتلى من الجنود العسكريين الذين قتلوا بسبب المعارك وأسباب أخرى.[293]
النهاية الرسمية للحرب
أُختيرت باريس لتكون مقرًّا لمؤتمر الصلح وكان هذا الإختيار دلالات سياسية، أولها أنه كانت هناك دعوات إلى إتخاذ جنيف مقرًّا لمؤتمر الصلح على اعتبار أن سويسرا دولة محايدة ولكن الرئيس الأمريكي ويلسون كان يفضل باريس التي كانت تعج بالقوات الأمريكية، السبب الثاني هو أن فرنسا من بين الدول المتحالفة هي الأكثر خسارةً في الأرواح وفي حجم التخريب الذي تعرضت له مناجم ومصانع ومدن شمال فرنسا بسبب التدمير الذي كان يتم على يد القوات الألمانية وهي تنسحب من موقع لآخر، فهي بذلك أحق بأن يُعقد فيها المؤتمر. كذلك إن وجود المؤتمر في باريس يجعل كلمة الشعب الفرنسي مسموعة بقوة أكبر داخل أروقة المؤتمر.[295] وانعقد أول مؤتمر للصلح في 18 يناير 1919 وفي 28 يونيو 1919 تم التوقيع على معاهدة فرساي مع الألمان وقد كانت الذكرى الخامسة على حادثة سراييفو. وبعد ذلك وقعت معاهدات الصلح مع كل من المجر وتركيا ولم تستكمل الولايات المتحدة معاهدتها المنفردة مع ألمانيا إلا في 25 أغسطس 1921 ومع تركيا لم توضع معاهدة لوزان المعقودة في يوليو 1923 موضع التنفيذ إلا في أغسطس 1924.[296]
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، قاتل اليونان ضد القوميين الأتراك في الحرب التركية اليونانية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك وقد أسفرت هذه الحرب عن إتفاقية التبادل السكاني بين اليونان وتركيا بموجب معاهدة لوزان.[297] ووفقًا لمصادر أخرى[298] قُتل آلاف اليونانيون البنطيون في تلك الفترة.[299]
ومع ذلك فقد رفضت الولايات المتحدة التصديق على معاهدة فرساي وكان السبب الرئيسي في رفضها هو أن عصبة الأمم هو من أنشأ هذه المعاهدة، فقد رأت أن النظام التأسيسي للعصبة هو محاولة من الدول الأوروبية الاستعمارية الكبرى للإستئثار بغنائم الحرب العالمية الأولى. ولم تنهي الولايات الأمريكية مشاركتها في الحرب بشكل رسمي إلا بعد التوقيع على قرار نوكس بورتر في 2 يوليو 1921 من قبل الرئيس الأمريكي وارن جي. هاردينغ.[300]
معاهدات السلام والحدود الوطنية
بعد الحرب فرض مؤتمر باريس للسلام سلسلة من معاهدات السلام بين دول المركز حتى تُنهي الحرب بشكل رسمي. حينما وافقت ألمانيا على توقيع الهدنة في 11 نوفمبر 1918 كان على أساس مبادئ ويلسون الأربعة عشر واعتقدت ألمانيا حينها أن القرارات التي ستصدر في مؤتمر السلام ستكون على أساس هذه المبادئ ولكن هذا لم يحصل مطلقًا. وكان أول اجتماع لعصبة الأمم في 28 يونيو 1919.[301][302] أُجبرت ألمانيا على الرغم من الإحتجاجات الشديدة لها إلى أن تعترف بالذنب لبدئها الحرب في عام 1914 وبالتالي فهي مسؤولة عن التعويضات الضخمة التي عليها أن تقوم بتعويضها لدول الحلفاء المتضررة والمواطنين بسبب العدوان الألماني. أصبح هذا الشرط لاحقًا عند الألمان بأنه شرط ذنب الحرب. لقد شعرت الغالبية العظمى من الألمان بالمهانة والإستياء حول هذه النقطة، وبعد ذلك أصبحت هذه النقطة قضية النازيين أثناء حملتهم الكبرى في عقد 1920. لقد شعر الألمان أنه تم التعامل معهم ظلمًا بسبب ماسموه بـ"أوامر فرساي" التي تلقوها. يقول الكاتب الألماني المنتمي للحزب النازيويليبالاد شولز "إن المعاهدة وضعت ألمانيا في ظل العقوبات القانونية محرومة من القوة العسكرية ودمِّرت إقتصاديًّا وأُذلَّت سياسيًّا"[303]
وحتى تُرغم ألمانيا على دفع التعويضات تقرر احتلال أراضي الراين لحين تسديدها.[304] إضافًة لألمانيا فقد تم تضمين بنود مماثلة في المعاهدات التي وقعتها بقية قوى دول المركز مثل معاهدة سان جرمان مع النمسا ومعاهدة تريانون مع المجر، لقد وقعت مملكة المجر على معاهدة تريانونعام 1920 في نهاية الحرب بين دول الوفاق (وهي واحدة من دول الإمبراطورية النمساوية المجرية).[305][306][307][308] ومعاهدة نايي مع بلغارياومعاهدة سيفر مع تركيا ولكن عُدِّلت بمعاهدة لوزان.[309] مع أن ألمانيا غابت عن مؤتمر الصلح إلا أنه فُرضت معاهدة فرساي فرضًا على الجمهورية الألمانية الجديدة وهذا أعطى للزعامات الألمانية فيما بعد الفرصة للتنصل من معاهدة لم يكن لهم رأي في إعدادها.[310]
ولمنع ألمانيا من معاودة الإنتقام وإبقاء قواتها العسكرية ضعيفة فُرض عليها أن لايزيد عدد جيشها عن مائة ألف مقاتل يجمعون بالتطوع ومنع التجنيد الإجباري، وأن لاتستخم الدبابات أو الطائرات الحربية وتسليم أسطولها الحربي إضافًة إلى أن لايزيد أسطولها الحربي في المستقبل عن ست قطع لاتزيد حمولتها عن عشرة آلاف طن وعدد محدود من القطع الصغيرة الحربية، وأخيرًا تدمير القاعدة البحرية الألمانية في هليجولاند حتى لاتستعيد قوتها.[311] كانت مشكلة التعويض من أعقد ما جادلت فيه فرنسا وبريطانيا وبلغ التهور في المطالبة إلى عندما وضع خبراء المال تقريرًا يطالبون في ألمانيا بدفع 24 مليون جنيه إسترليني مؤكدين قدرتها على ذلك وقد ردَّ الإقتصادي المالي الكبير البريطاني جون مينارد كينز بأن قدرات ألمانيا لاتتعدى ألفي مليون فقط.[311] في الوقت نفسه كانت الدول المتحررة من الحكم الألماني تنظر للمعاهدة بأنها كالإعتراف بالأخطاء المرتكبة ضد الدول الصغيرة[312].
كانت الدعوة إلى استقلال القوميات يعني تفكك الإمبراطورية النمساوية المجرية. كان أول الإنقسامات هو انفصال النمسا عن المجر ومن ثم ظهور مملكة يوغوسلافيا (1918-1941) وتشيكوسلوفاكيا (1918–1992). واتسعت مملكة رومانيا على حساب جاراتها المجر وروسيا والنمسا، فقد تحولت ترانسيلفانيا من حكم المجر إلى رومانيا الكبرى أما من روسيا فقد أخذت منها بيسارابيا في أبريل من عام 1918، ومن النمسا أخذتبوكوفينا.[313] وتنازلت النمسا لمملكة إيطاليا عن تريستا، إيستريا، التيرول وممر برنر الإستراتيجي.[314]
هكذا فقدت النمسا مناطق شاسعة من إمبراطوريتها في معاهدة سان جرمان. خسرت الإمبراطورية الروسية بعد أن انسحبت من الحرب في عام 1917 بسبب الثورة البلشفية العديد من الأراضي في الحدود الغربية للدول المستقلة حديثًا من إستونيا، فنلندا، لاتفيا، ليتوانيا وبولندا[315].
تفككت الدولة العثمانية وأصبحت قاصرة على تركيا بعد أن احتلت الجيوش البريطانية العراق حتى الموصل والشام حتى حلب. وسيطرت قوات الحلفاء على المضايق وأعادت إغلاقها في وجه السفن الحربية على نسق ما طبق منذ 1841، وفرضت على تركيا معاهدة سيفر في أغسطس 1920 وبمقتضاها تنازلت الدولة العثمانية لليونان عن كل مالديها في أوروبا فيما عدا القسطنطينية ومنطقة صغيرة على طول المضايق وبحر مرمرة. كذلك استقلت أرمينيا من حكم الدولة العثمانية، وتولت اليونان التي حصلت من تركيا على بحر إيجه أمر الإشراف على منطقة إزمير وماحولها ووضعت منطقة أضاليا تحت الإشراف الإيطالي كما وضعت سوريا ولبنان تحت الإنتداب الفرنسي، والعراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الإنتداب الإنجليزي[314].
أوكلت قوات الحلفاء مهمة القضاء على الدولة العثمانية في أيدي القوات اليونانية، فقامت الأخيرة بشن هجوم عام في 22 حزيران 1920 ومنه احتلت مناطق مهمة في الأناضول وتراقيا، وقد أعطى هذا الاحتلال الذريعة في فرض معاهدة سيفر على السلطان العثماني.[316]
الذي وقع على معاهدة سيفر هو السلطان العثماني محمد السادس، بينما رفضتها الحركة الوطنية التركية بزعامة مصطفى كمال أتاتورك ورفضت التفريط في أي شبر من الأراضي التركية. أعاد تكوين القوات التركية وقاتل اليونانين وظل وراء الفرنسيين والإيطاليين حتى تخلوا عما كان تحت يدهم من الأراضي التركية، تم التوصل إلى معاهدة لوزان في 24 يوليو 1923 التي أنهت الحرب مع تركيا وحددت الحدود مع بلغاريا واليونان، ودعت إلى تحديد للحدود التركية - العراقية، والتركية - السورية، كذلك أعلنت تركيا تنازلها عن سيادتها على البلاد العربية. وبالمقابل وافق الحلفاء على إلغاء الإمتيازات الأجنبية. في نفس اليوم وقع ميثاق المضايق الذي يضمن حرية المرور فيها في زمن السلم والحرب [317]
استعاد مصطفى كمال أتاتورك أزمير في 9 يوليو 1922 وطرد اليونانيين من ساحل آسيا الصغرى كما تمكن أتاتورك من استعادة تراقيا في 11 أكتوبر.[318]
اتفاقية سايكس بيكو
حينما تحالف العرب مع الحلفاء كانوا قد اعتقدوا أنهم سوف يحصلون على استقلال بلادهم كما وعدتهم بريطانيا وحُلفائها، ولكنهم فوجئوا بأن إتفاقًا سريًّا قد تم ضدهم وهو إتفاق سايكس - بيكو. وقعت هذه الإتفاقية بين حكومتا فرنسا وبريطانيا[319][320].
لم تحاول الدولة العثمانية خلال تاريخها الطويل صبغ الشعوب المختلفة التي دخلت في تبعيتها بالصبغة العثمانية وصهرها في بوتقة واحدة لعدة عوامل وهي سطحية الحكم العثماني الذي أهمل توثيق الروابط مع الولايات المفتوحة ما حال بين الحكم العثماني وتغلغله في حياة الشعوب التي تألفت منها الدولة.[321] العامل الثاني هو الإستعلاء الذي كان من الصفات البارزة للعثمانيين على مختلف طبقاتهم، وقد بلغ استعلاؤهم حدًّا إلى ترفعهم عن مخاطبة أباطرة أوروبا وملوكها بألقابهم، وقد ظلَّ العثمانيون لمدة طويلة يرفضون تعيين سفراء لهم في الدول الأوربية، وبقي الأمر على ذلك حتى عهد السلطان محمود الثاني.[322] كذلك نتج عن استعلائهم عدم تزاوجهم مع سكان البلاد المفتوحة. دفعت هذه السلبية العثمانية شعوب البلاد العربية للمحافظة على لغتها ولم تستخدم اللغة التركية إلا في الدوائر الحكومية. أما العامل الثالث فهو الجمود، فبعد الفتوحات التي حققها العثمانيون خلال تاريخهم الطويل لم يتماشَى العثمانيون مع التطور الحديث الذي طرأ في أوروبا وعدُّوا هذا من عمل الأعداء، وزين لهم التعصب والجهل أن التشبه بالأوروبين كفر.[323] كل ذلك تسبب في انعدام الوحدة الحضارية.
رغم سياسته الإسلامية فقد حظي السلطان عبد الحميد بكراهية كافة سكان الدولة العثمانيون والعرب على السواء بسبب المظالم التي حلت بهم، ومع أنه قد أعلن الدستور في 31 أغسطس 1876 واجتمع أول برلمان عثماني في عهده في مارس 1877 إلا أنه سرعان ما ألغاه في فبراير 1878 ونكل بالأحرار الذين أوصلوه إلى السلطة وعلى رأسهم مدحت باشا الذي نُفي في عام 1881 إلى الطائف. لذا بدأت حركة فكرية نتج عنها حركة قومية تدعو لاستقلال العرب وانفضاضهم على الخلافة، وبدأت الجمعيات السرية المناهضة لسياسة السلطان عبد الحميد نشاطها وبخاصة في لبنان التي تأسس فيها جمعية بيروت السرية 1875 بأعضاء مسيحين ولكن سرعان ما انضم إليها بعض المسلمين.[324]
حينما دخلت بريطانيا في اتفاقيتها مع العرب وتعاقدت معهم خلال مراسلات حسين - مكماهون كان شرط حسين بن علي في مراسلاته السرية استقلال الدول العربية عن الدولة العثمانية في حال إنضمامهم للحرب، وقد وعدتهم بريطانيا بذلك، ولكن كان هناك اتفاق سري بين فرنسا وبريطانيا قاما به فرانسوا جورج بيكو مع المندوب البريطاني مارك سايكس بخصوص اقتسامالهلال الخصيب وأراضٍ أخرى تابعة للدولة العثمانية إذا ما انتهت الحرب لصالح الحلفاء.[165] واشترك في تلك الإتفاقية روسيا حينما طلب قنصل روسيا منهما السفر إلى بطرسبيرغ لعرض المشروع على الحكومة الروسية ومن هناك ابتدأت المفاوضات في منتصف شهر مارس 1916، وقد وافقت الحكومتان البريطانية والفرنسية على مطلب روسيا الخاص في اتفاقية الآستانة (1915) وهو أن تكون إسطنبول والمضايق من نصيبها بعد انتهاء الحرب[325].
ظلت هذه الإتفاقية سرِّية إلى أن نشرها البلاشفة الروس في جريدتا إوفيستيا وبرافدا في 23 نوفمبر 1917 عند اندلاع الثورة البلشفية بعد العثور على نصوص الإتفاقيات في سجلات وزارة الخارجية الروسية.[133] بعد نشرها بعث جمال باشا في 12 ديسمبر 1917 برسالتين إحداهما للأمير فيصل والثانية إلى جعفر العسكري عارضًا فيها عقد صلح عثماني - عربي. نجحت الحكومة البريطانية في إقناع الشريف حسين بن علي بأن العثمانيين يحاولون نشر الخلاف بين العرب والحلفاء، فصدق الشريف حسين هذا ووضع ثقته في وعود الحكومة البريطانية وحلفائها.[133]
وعد بلفور
اتجهت الصهيونية قبل الحرب العالمية الأولى إلى تركيز جهودها نحو بريطانيا بسبب شعور زُعماء الصهيونية بتراخي فرنسا في تأييد حركتهم. وكانت الصهيونية تتخذ من برلين قبل الحرب مركزًا لنشاط اللجان التنفيذية التي قررت المؤتمرات الصهيونية تشكيلها، وإزداد نشاطها بعد بدء الحرب العالمية الأولى، فقد أدركوا أن هذه فرصتهم الثمينة التي لاتعوض لإستغلالها في تحقيق هدفهم في إنشاء الوطن القوي لليهود في فلسطين. رغم أن المؤتمر الصهيوني الحادي عشر عام 1913 قد قرَّر وقوف الصهيونية على حياد بين المعسكرين المتنازعين في أوروبا فقد كثَّفت جهودها في بداية الحرب وبدأت تعمل في كل إتجاه، محاولة كسب أحد الأطراف لتبني مخططاتها، مقابل تقديم المساعدة الممكنة لهذا الطرف المستجيب، وأخذت تراقب سير الأحداث عن طريق مراكزها، لإختيار أفضل الطرفين للتحالف معه، ومن أجل ذلك وزَّع زُعماء الصهيونية أنفسهم على دول المعسكرين المتحاربين إلى جانب الولايات المتحدة التي لم تدخل الحرب بعد.[326]
كانت بريطانيا في ذلك الوقت على وعيٍ بحركة اليقظة العربية في بلاد الشام ضد الحكم العثماني، فعملت على الإستفادة منها بقطعها الوعود الزائفة لزعماء الحركة العربية، وكان اتجاه بريطانيا نحو الحركة العربية عاملًا قويًّا في تركيز الجهود الصهيونية نحو بريطانيا. لأن فلسطين إمتداد طبيعي لمصر التي كانت خاضعة للنفوذ البريطاني آنذاك، وبسبب إلتقاء الأهداف الصهيونية مع الإستراتيجية البريطانية في المنطقة العربية، أدرك حاييم وايزمان ذلك وبدأ نشاطه وراء الشخصيات البريطانية ذات النفوذ بمساعدة صديقه سكوت رئيس تحرير جريدة المانشستر جارديان، فقد تعرف عن طريقه على هربرت صمويل الذي كان آنذاك أحد أعضاء الحكومة البريطانية، ولويد جورج الذي استعان بوايزمان في إنتاج مادة الأسيتون أثناء توليه رئاسة لجنة التموين.[327] كانت هذه المادة تُستعمل كمذيب للبارود، فلا يطلق دخانًا وكانت بريطانيا تُعاني من عجز في إنتاج هذه المادة وبدون توفرها فسيكون من الضروري إحداث تغييرات واسعة في بنادق البحرية، وقد زاد نجاح وايزمان في إنتاج هذه المادة من قدرة لدى المسئولين البريطانيين، وقد كان لإتصالات وايزمان أثر كبير على هؤلاء المسئولين، يتجلى في تصريحاتهم التي أخذت تُؤكد وتُحبذ فكرة إنشاء دولة يهودية حاجزة Jewish Buffer State في فلسطين.[328]
في 2 نوفمبر 1917 أُرسل خطاب من أرثر يلفور وزير الخارجية البريطاني ومنه يُعزى اسم وعد بلفور إلى رئيس المنظمة الصهيونية اللورد روتشيلدينص على:
   
الحرب العالمية الأولى
عزيزي اللورد روتشيلد:
«يسرني جدًّا أن أُبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود الصهيونية وقد عُرِضَ على الوزارة وأقرَّته:
إنَّ حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جليًّا أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف الغير يهودية المقيمة في فلسطين، ولا بالحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلاد الأخرى».
«وسأكون شاكرًا لو تكرمتم بإحاطة الإتحاد الصهيوني علمًا بهذا التصريح».
المخلص
أرثر جيمس بلفور[329][330]
   
الحرب العالمية الأولى
بعد أسبوع من التصريح نُشر في الصحافة في 9 نوفمبر[331] سارعت أجهزة الدعاية الألمانية والدولة العثمانية، وهما الجانبان المُعاديان للحُلفاء في كشف التواطئ البريطاني - الصهيوني، إلى جانب أن جريدة المقطم التي كانت تُصدر في القاهرة، سارعت بنشر التصريح مرتين في يومي (10 و12 نوفمبر عام 1917)، كما أقام اليهود في بعض المدن المصرية إحتفالات بمناسبة إعلان التصريح، وبذلك استطاعت أنباء التصريح أن تنتشر بين الأوساط العربية، وبين عرب فلسطين.[332]
أعرب العرب عن إستنكارهم لتصريح بلفور في شهر نوفمبر أثناء موكب بمناسبة ذكرى احتلال بريطانيا لمدينة يافا. احتجت جمعية المسيحين- المسلمين على إنشاء دولة صهيونية "وحملت لافتات بيضاء وزرقاء تحتوي كلاهما على مثلثات في الوسط"، وقد لفتوا بذلك انتباه السلطات بشأن العواقب الوخيمة من أي تداعيات سياسية ناتجة عن هذا التصريح.[333] أرسلت مرة أُخرى جمعية المسيحين- المسلمين مذكرة إلتماس طويلة إلى الحاكم العسكري إحتجاجًا في تشكيل دولة صهيونية.[334]
الوطن العربي تحت الإنتداب
قام العرب، وبخاصة أقطابهم المقيمون في القاهرة، على إثر إتفاقية سايكس - بيكو وتصريح بلفور بمطالبة بريطانيا بتحديد سياستها، وكان رد الحكومة البريطانية عليهم مُطمئنًا ومؤكدًا لهم الإعتراف للعرب بالسيادة والإستقلال. وعادت بريطانيا وفرنسا في 7 نوفمبر 1918 أي قبل إنتهاء الحرب بأيام تؤكدان في تصريح مشترك أنَّ هدفهما هو تحرير الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية تحريرًا تامًّا وإقامة حكومات حرَّة مستقلة يختارها المواطنون بملء إرادتهم.[335]
عندما عُقد مؤتمر الصلح كلَّف الشريف حسين ابنه فيصل لتمثيل العرب في المؤتمر، وسافر على ظهر الطرَّاد البريطاني دوق غلوسستر إلى مرسيليا فوصلها في 26 نوفمبر 1918، فاستقبلته الحكومة الفرنسية كزائر كبير ليس له صفة الممثل السياسي أو المندوب الرسمي لحكومة معينة، وكان هذا التصرف يعني أن الحكومة الفرنسية لم تشأ أن تفترض للعرب حقوقًا في مؤتمر الصلح، وبعد أن اعتُرف به كممثل لحكومة الحجاز، فُوجئ أن مؤتمر الصلح قد وضع حق تقرير مصير الشعوب العربية.[336]
حضر فيصل حفل افتتاح مؤتمر الصلح في 18 يناير 1919، وفي 29 يناير قدم للمؤتمر مذكرة بالقضية العربية، وفي 6 فبراير 1919 عُرضت القضية ودافع فيصل عن حق العرب في الإستقلال واقترح إيفاد لجنة تحقيق لاستفتاء الشعوب العربية في تقرير مصيرها، وقد لاقى هذا الإقتراح تأييدًا من الرئيس الأمريكي ويلسون فعين ممثلان لحكومته هنري كينغ[336] وتشارلس كرين، كذلك فعل لويد جورج رئيس وزارء بريطانيا عيَّن هنري مكامهون وهارت الخبير في شؤون الأوسط والأدنى، ثم عاد لويد جورجوأعلن إمتناع بريطانيا عن إرسال أعضاء إلى اللجنة، بسبب الضغط الصهيوني، أما فرنسا فقد رفضت الإشتراك في اللجنة إلا إذا اشتملت العراق وفلسطين، أما إيطاليا فقد أعلنت إنسحابها من اللجنة لأنه لاتوجد لها مصلحة في الشرق، وبذلك تكونت لجنة كينغ - كرين الأمريكية. وصلت اللجنة إلى يافا وكان تقريرها هو صورة صادقة عن مشاعر الأهالي في سورية والعراق. ولكن تقرير اللجنة لم يُتح له أن يكون موضع نظر الحلفاء وإهتمامهم، وطغت عليه الأطماع البريطانية، والفرنسية، والصهيونية.[336]
اجتمع المؤتمر السوري العام في 7 مارس 1920 وأصدر عدة قرارات:
1.     الإعتراف باستقلال سورية بحدودها الطبيعية كدولة سيادة وتنصيب الأمير فيصل ملكًا عليها، والإعتراف بإستقلال العراق.
2.     رفض إتفاقية سايكس بيكو، وتصريح بلفور، وكل مشروع يُرمى إليه تقسيم سورية، وإنشاء دولة يهودية في فلسطين.
3.     رفض الوصاية السياسية التي ينطوي عليها نظام الإنتداب المُقترح وقبول المعونة الأجنبية لمدة محدودة، بشرط ألَّا تتعارض مع الإستقلال والوحدة، وتُفضل معونة الولايات المتحدة على سواها، فإن لم تكن فمعونة بريطانيا.
4.     رفض معونة فرنسا مهمًا كان شكلها.[337]
قُوبلت هذه القرارات في الأوساط العربية بموجة من الحماس، وفي 8 مارس 1920 تُوِّج فيصل ملكًا على سوريا، فأغضبت هذه القرارات الحلفاء، وبخاصة أن جيوش فرنسا التي كانت تحتل السواحل السورية كانت تتقدم في كل لحظة إلى الداخل، ولذا اجتمع المجلس الأعلى للحلفاء في مؤتمر سان ريمو في 25 أبريل وأُعلن فيه وضع العراق تحت الإنتداب البريطاني، وضع فلسطين تحت الإنتداب البريطاني مع تنفيذ تصريح بلفور والقرار الأخير هو وضع سوريا ولبنان تحت الإنتداب الفرنسي كدولتين مُنفصلتين. وكانت قرارات الحُلفاء مُخيبةٌ لآمال العرب، وبداية لمرحلة الصراع المستمر بين الحُلفاء والعرب في كل قطر من أقطار الأمة العربية المنقسمة عن الدولة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى.[338][339]
الهويات الوطنية
أصبحت بولندا مستقلة بعد أكثر قرن. وأصبحت مملكة صربيا وسلالتها الحاكمة[340][341][342] الأساس الداعم والحاكم لمملكة يوغسلافيا التي كونت فيما بعد دول جديدة جمعت مملكة بوهيميا مع أجزاء من مملكة المجر وهذه الدول الجديدة هي يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. أصبحت روسيا الاتحاد السوفيتي المكون من فنلندا، ليتوانيا، إستونيا ولاتفيا. اسُتبدلت الدولة العثمانية بتركيا وعدد من البلدان في الشرق الأوسط.
في الإمبراطورية البريطانية أطلقت الحرب العنان للقوميات الجديدة، استطاعت أستراليا ونيوزيلندا الانتصار في معركة جاليبولي (25 أبريل 1915 – 9 يناير 1916) وكانت هذه أول حرب كبيرة تخوضها الدول التي تأسست حديثًا وكانت من المرات الأولى التي حاربت القوات الأسترالية كقوة أسترالية وليست تابعة لبريطانيا وبسبب ذلك احتُفل بذكرى فيلق الجيش الأسترالي والنيوزيلندي (ANZAC).[343][344]
قاتلت الكتيبة الكندية لأول مرة كقوة منفصلة في معركة فيمي ريدج.[345] دخلت كندا الحرب كدومينيون، وهي دولة مستقلة من الإمبراطورية البريطانية،[346] عندما أعلنت بريطانيا الحرب في عام 1914 كان الدومينيون مشاركين هم أيضًا في هذه الحرب وكنتيجة لذلك فقد وقَّع كلًا من كندا، نيوزيلندا، أستراليا و جنوب أفريقيا على معاهدة فرساي توقيعًا منفصلًا عن الآخر.[347]
بسبب الضغط الذي قام به حاييم وايزمان على الحكومة البريطانية والخشية من أن اليهود الأمريكيين من شأنهم أن يشجعوا الولايات المتحدة الأمريكية بأن تدعم ألمانيا في وعد بلفور عام 1917 صادقت الحكومة البريطانية على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.[348] لقد خدم أكثر من 1,172,000 جندي يهودي في قوات الحلفاء ودول المركز في الحرب العالمية الأولى، بما في ذلك 275,000 جندي يهودي في الإمبراطورية النمساوية المجرية و 450،000 في روسيا القيصرية.[349]
نتج عن الحرب العالمية الأولى بدء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي (القضية الفلسطينية).[350] قبل نهاية الحرب حافظت الدولة العثمانية على مستوى متواضع من السلام والاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط[351] ولكن بعد سقوطها بدأت تظهر الصراعات في البلدان التي كانت تحت حكمها.[352] وبدأت البلدان المنتصرة في هذه الحرب ترسم حدودها السياسية بعد سقوط الدولة العثمانية، حتى أنه كانت في بعض الأحيان قد رسمت حدودها السياسية بعد مشاورة سريعة للمقيمين المحليين.[353][354] في كثير من الحالات أصبحت الهوية الوطنية مشكلة من الصعب حلها في القرن 21.[353][354] كان تفكك الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى مساهمًا محوريًّا في تشكل الوضع السياسي الحديث للشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي.[355][356][357] إضافًة لنهاية الحكم العثماني ولَّد نزاعات أقل شهرة من الحدود السياسية مثل المياه والموارد الطبيعية الأخرى.[358]
الآثار الصحية
كان لهذه الحرب نتائج عميقة في صحة القوات العسكرية، فمن بين 60 مليون من الأفراد العسكريين الأوروبيين الذين تم حشدهم من 1914 إلى 1918 قتل منهم 8 مليون جندي و7 مليون أصبح عاجزًا و15 مليون أُصيبوا بإصابات خطيرة. خسرت ألمانيا 15.1٪ منهم وفقدت أمبراطورية النمسا والمجر 17.1٪ أما فرنسا فقد خسرت 10.5٪.[359] كان عدد القتلى في ألمانيا من المدنيين 474،000 وهو أعلى مما كان عليه في زمن السلم ويرجع السبب في نقص الغذاء وسوء التغذية التي تجعل الجسم لا يقاوم الأمراض.[360] بحلول نهاية الحرب قتلت المجاعة ما يقرب من 100،000 شخص في لبنان..[361] وأفضل تقديرات لعدد القتلى من المجاعة الروسية لعام 1921 التي وقعت في روسيا هو مابين 5 مليون و10 ملايين شخص.[362] في عام 1922 كان هناك ما بين 4.5 مليون و7 ملايين طفل مشرد في روسيا نتيجة ما يقرب عقد من الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الروسية، إضافًة إلى المجاعة من 1920-1922.[363] فرَّ العديد من الروس المعادين للسوفييت البلاد بعد الثورة؛ في عقد 1930 كانت مدينة هاربن التي تقع شمال الصين تحتوي على 100،000 الروس الذين فرَّوا من بلادهم.[364] وآلاف أخرى منهم هاجروا إلى فرنسا، بريطانيا والولايات المتحدة.
في أستراليا كانت آثار الحرب على الإقتصاد واضحة، وقد كتب رئيس الوزراء الأسترالي بيلي هيوز إلى رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد لويد جورج، "لقد أكدت لنا أنك لاتستطيع الحصول على شروط أفضل، وأنا آسف لذلك كثيرًا وآمل أن يكون هناك طريقة أخرى حتى نتفق بشأن مطالب التعويض المناسبة مع التضحيات الهائلة التي قُدمت من قبل الإمبراطورية البريطانية وحلفائها".[365] حصلت أستراليا على تعويض لها بعد مشاركتها في الحرب 5,571,720₤ ولكن كانت التكلفة الحقيقة لأستراليا في مشاركتها الحرب هو 376,993,052₤ ومع حلول منتصف عقد 1930 كانت معاشات الإعادة للوطن ومكافئات التقاعد من الحرب 831,280,947₤.[365] حوالي 416,000 من الجنود الأستراليين الذين خدموا في الحرب العالمية الأولى قُتل حوالي 60,000 جندي أسترالي وبلغ عدد الجرحى منهم 152,000.[366]
زادت الأمراض في تلك الظروف الفوضوية للحرب. ففي عام 1914 استطاع القمل الناقل لوباء التيفوس قتل 200,000 شخص في صربيا.[367] من عام 1918 إلى 1922 كان لدى روسيا 25 مليون إصابة و3 ملايين حالة وفاة بسبب وباء التيفوس.[368]في حين أن روسيا كانت قبل الحرب العالمية الأولى لديها حوالي 3.5 مليون شخص مصاب بالملاريا، وفي عام 1923 أصبح الشعب الروسي يعاني أكثر من 13 مليون حالة.[369] بالإضافة إلى ذلك انتشر وباء الإنفلونزا الإسبانية بشكل رئيسي في جميع أنحاء العالم وقتلت 50 مليون شخص على الأقل.[370][371]
حاولت القوات الأمريكية في أوروبا التعامل مع الإنفلونزا الإسبانية ومع الضغط الذي أحدثته على النظام الطبي، ففي إحدى المستشفيات العسكرية الواقعة بالقرب من غابات أرجون، كان لديها العديد من المصابين على وشك الموت. وقد ارتفع مُعدل وفيات الإلتهاب الرئوي إلى 80%. كما ظهرت آثار الإنفلونرا بشكل مذهل على متن السفن الحاملة للجنود الأمريكيين عبر المحيط الأطلسي. وعندما رست سفينة لوياثانفي ميناء بريست في 7 أكتوبر، كانت تحمل مائتي قتيل ومُحتضر من فوج النخبة السابع والخمسين. وقد تذمَّر الأطباء والممرضون على جانبي المحيط الأطلسي عجزهم عن مُعالجة المرض بفعالية، ويظهر مشهد الجنود الأقوياء وهم يتساقطون أرضًا ويموتون في غضون يومين في الكثير من المرويات. إزداد كذلك التذمر في نقص الأسرة ونقص التوابيت.[372]
ساعدت الحقول التي كانت مسرح العديد من المعارك - وهي حقول حُرثت طوال قرون بروث الحيوانات - في التسبب بجروح مُعدية جديدة على الخبرات الطبية المتوفرة في ذلك الوقت. وقد واجه الأطباء على كلا الجانبين مشكلة ترميم الأعضاء أو استبدالها إذا اقتضت الضرورة مثل الوجوه الممزقة والأطراف المشلولة. كما توجب على الأطباء التكيف مع الأعداد الغير مسبوقة من المرضى في أعقاب المعارك الكبرى على الجبهة الغربية، معرضين أنفسهم في كثير من الأحيان بوابل من نيران العدو، وأحيانًا كانوا عُرضًة للخطر في مراكز الإسعاف القريبة من الجبهة.[373]
كان على الجنود الذين فقدوا أبصارهم وبُترت أطرافهم أن يقوموا بالتغييرات الأكثر جذرية في حياتهم، ولكن الجنود المكفوفين شكَّلوا نسبة قليلة من أولئك الذين تعافوا من جراحهم، فعادةً ماقتلت الإصابات في الرأس الضحية وبنهاية الحرب كان لدى ألمانيا أقل من ثلاثة آلاف من محارب مكفوف. كما خاض أولئك الذين فقدوا أحد أطرافهم تجربة بتر إحدى الساقين بدرجة كبيرة. ولاقى مثل هذه الخسارة ستة جنود من كل مائة جندي ألماني جريح والبالغ عددهم مايقرب خمسة وأربعين ألف، وعانى 3% أي زهاء واحد وعشرون ألفًا من فقدان إحدى الذراعين، غير أن فقدان الساقين معًا كان أقل شيوعًا، وفقدان كلتا الذراعين كان أمرًا نادرًا جدًّا (فقط إثنان من كل عشرة آلاف جريح). ونتيجة لذلك إزداد الطلب على خدمات المتخصصين في طب العظام الذين كانوا قلَّة قبل الحرب بشكل لم يسبق له مثيل.[374]
التكنولوجيا
الحرب البرية
إزداد القتال بشكل كبير في حرب الخنادق، التي فيها مات المئات من الجنود في كل مساحة أرض كانوا قد اكتسبوها في أرض المعركة. وقعت العديد من أعنف المعارك على وجه التاريخ خلال الحرب العالمية الأولى، مثل كامبريه، جاليبولي، فردان، السوم، المارن وباشنديل. استخدم الألمان عملية هابر في تثبيت النيتروجينليوفروا لقواتهم الإمدادات الثابتة من البارود بسبب الحصار البحري البريطاني المفروض عليهم.[377]
·         الخوذات: كانت المدفعية هي المسؤولة الأكبر في إزدياد عدد الضحايا[378] وقد استهلكت كميات كبيرة من المتفجرات لهذا. كانت الإصابات في الرأس الناجمة عن قذائف منفجرة في الخنادق قد كثرت وهذا أجبر الدول المقاتلة على تطوير خوذة. في 1915 أصدر الفرنسيون خوذة أدريان وقد كانت أول خوذة معدنية،[379][380] وبعض الجنود الأمريكيين في فرنسا.[381] تبعتها مباشرة خوذة تُسمى Brodie helmet وقد ارتداها جنود الإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة، وفي عام 1916 طوَّر الألمان خوذة Stahlhelm وقد كانت ثقيلة جدًّا للإستخدام بشكل عام.[382] إضافًة للخوذات فقد صُنعت معاطف الخنادق.
في بداية الحرب العالمية الأولى كان الجيش الألماني لديه وفرة من الأسلحة الثقيلة والذخائر، أما بريطانيا وفرنسا فوجدتا نفسيهما في موقف هشّ تمثل في "أزمة القذائف" في مطلع العام 1915. ففي معركة باشنديل واجه رجال المدفعية البريطانية قيودًا شديدة بشأن عدد القذائف التي يُسمح لهم بإطلاقها في اليوم الواحد، ومع ذلك فبحلول السنة الثانية من الحرب توافرت كميات هائلة من قذائف المدفعية للمتحاربين على خط القتال.[383]
·         الغازات السامة: كان للإستخدام الواسع للأسلحة الكيميائية سمة مميزة في هذه الحرب، فقد اسُخدمت غازات سامة وهي غاز الخردل، الكلوروالفوسجين. كان لإستخدام الغازات السامة أثر بسيط في عدد الضحايا الذين قُتلوا بسببه،[384] تعرض الجنود الذين كانوا يشغلون الخنادق للإعاقة المؤقتة بواسطة الغاز المسيِّل للدموع. لقد قتلت غازات الكلورين والفوسجين ضحاياها بتعطيل أنسجة الجهاز التنفسي.[385] وللتدابير المضادة من تأثير هذه الغازات أُنشئت بسرعة الأقنعة الواقية من الغازات لحماية الجنود منها. بسبب التأثير الكبير للحرب الكيماوية والقصف الإستراتيجي للمدن فقد تم حظر استخدامهما في اتفاقيتا لاهاي 1899 و1907.[386] مع أن تأثير تلك الإتفاقيتان كان محدودًا إلا أنهما استطاعتا لفت انتباه الناس في هذه الأمور.[387]
من المفارقات العجيبة أنه قبل أكثر من شهر من الهجوم بالغاز على إيبر، قضى ثلاثة ألمان وأُصيب خمسون بهذا السلاح. فقد كان حمل إسطوانات الغاز التي تزن الواحدة منها مائتي رطل، إلى خطوط المواجهة أمرًا مُثيرًا للانتباه استدعى قيام الحلفاء بقصف تلك الإسطوانات في مناسبات مُختلفة. فقد أصابت إحدى القذائف بعض الإسطوانات مما جعل الألمان أول من أُصيبوا بالغاز على الجبهة الغربية.[388] مرَّ رقيب من كتيبة نورثمبرلاند بمركز إسعاف به عشرات من الجنود المسممين بالغاز وقد وصفهم بقوله:
   
الحرب العالمية الأولى
كان لونهم أسود وأخضر وأزرق، وكيف كانت ألسنتهم مُتدلية للخارج وعيونهم محدقة... كان بعضهم يسعل زبدًا أخضر اللون من رئاتهم.[388]
   
الحرب العالمية الأولى
·         المدافع: كانت ألمانيا متقدمة بفارق كبير على الحلفاء في استخدام النيران الغير مباشرة الثقيلة. لقد عمل الجيش الألماني في استخدام مدفع هاوتزر ذو عيار 150 ملم (6 بوصة) و210 ملم (8 بوصة) في عام 1914. بينما كانت أسلحة الجيوش البريطانية والفرنسية من عيار 75 ملم (3 بوصة) و105 ملم (4 بوصة). كان لدى البريطانيين مدفع هاوتزر عيار 152 ملم (6 بوصة) ولكن حجمه ثقيل ويجب نقله بالعربة إلى ميادين القتال ومن ثم تجميعه. أعطى الألمان البنادق للنمسا من عيار 305 ملم (12 بوصة) و 420 ملم (17 بوصة)، في بداية الحرب كان لديهم المخزون الوافر من الكوادر المختلفة مثل قاذفة اللغم، والتي كانت مناسبة بشكل مثالي في حرب الخنادق.[389]
·         الألغام: في عام 1914 تراجع القادة العسكريون الألمان كلما أمكن إلى الأراضي المرتفعة. وبالتالي أصبحت لقواتهم ميزة الإشراف على خطوط أعدائهم. ولكن تلك الفائدة صاحبها خطر مميت، فقد واجه الجنود الألمان المتحصنون في قطاعات مرتفعة من الجهة الغربية وبشكل مُخيف إمكانية قيام العدو بالحفر ونصب الألغام مباشرة تحت مواقعهم. وعندما كانت هذه التجويفات تُملأ بالمتفجرات ويتم تفجيرها، فإنها كانت تقتل أولئك الجنود المتمرسين وتشوههم وتصيبهم بالذهول. ولم يكُن بمقدور أي جندي من جنود الحلفاء اللذين حفروا تحت المواقع الألمانية التنفس بسهولة، وذلك لأن العدو إتَّخذ إجراءات مضادة قاتلة. فقد حفر الألمان أنفاق ألغام خاصة بهم لاعتراض الخنادق البريطانية ولم يكن أحيانًا يفصل بين تلك الأنفاق المتحاربة سوى بضعة أقدام.[385]
·         قاذفات اللهب: استخدم الألمان قاذفات اللهب كسلاح جديد في الحرب العالمية الأولى، وبعد ذلك تبعتهم القوات الأخرى في استخدام هذا السلاح. مع أن القيمة التكتيكية لهذا السلاح قليلة إلا أن قاذف اللهب كان قويًّا لأنه كان يتسبب في إرهاب جنود العدو في أرض المعركة. لقد كان سلاحًا خطيرًا ومع ذلك فقد كان وزنه ثقيل مما يجعل مُستخدمه عرضة للخطر.
·         الدبابات: ظهرت دبابة مارك-1 للخدمة في شهر أغسطس من عام 1917، واستُعملت لأول مرة في صباح 15 سبتمبر 1917 خلال معركة فليرز كورسيليت جزء من معركة السوم.[390]. بالنسبة إلى القوات الألمانية جاءت السنوات الأخيرة من الحرب بعدو جديد مخيف إلى ساحة القتال، التي عُرفت بإسمها الرمزي "دبابة" وهي تهز الأرض بعنف في ساحة المعركة. وعلى الرغم من أن عددًا قليلًا من الدبابات الألمانية قد شاركت في هجوم الربيع الألماني عام 1918 إلا أن ألمانيا لم تستطع زيادة مواردها بما يسمح لجيشها الإستثمار بشكل كبير في مثل هذه الأداة. كانت دبابات الحرب العالمية الأولى تنقصها القوة والسرعة مثل تلك التي ظهرت بعد عقدين من الزمن، ومع ذلك فقد كانت الدبابات سلاحًا لم تستطع الرشاشات ولا الخنادق ولا الأسلاك الشائكة إيقافها وهذا ترك تأثيرًا عميقًا في نفسية العدو. فقد ذكر أحد الجنود الألمان الذين واجهوا هذه الدبابات في معركة كامبريه، شهر نوفمبر 1917 بكل صراحة ووضوح قائلًا: «كان الواحد منَّا يحدِّق ويحدِّق وكأنما شُلَّت أطرافه». فقد بدت هذه الدبابات بطيئة إلا أنها كانت أشبه بوحش يستحيل إيقافها. «صرخ أحد الجنود من داخل الخنادق: الشيطان قادم، فانتشرت هذه الكلمة على طول الجبهة بسرعة النار في الهشيم».[391] بسبب ذلك السلاح الجديد ظهرت الحرب المدرعة.
البحرية
استخدم الألمان غواصات U-boat في بداية الحرب بالتناوب بين حرب الغواصات المقيدة وغير المقيدة في المحيط الأطلسي. وقد قامت بحرية إمبراطورية ألمانيا بحرمان الجزر البريطانية من الإمدادات الحيوية. كان لوفاة البحَّارة التجار البريطانيين وحصانة غواصات U-boat التي بدا وكأنها لاتُقهر كل ذلك قد أدَّى ذلك إلى زيادة التطوير التقني في عام 1916، فاستُخدم الهيدروفون(سونار صوت مائي، 1917)، ومناطيد المراقبة كأسلحة مضادة لغواصات U-boat.[118]
الطيران
بدأت الحرب الجوية بطائرات صغيرة وهشَّة يقودها عدد قليل من الملَّاحين الذين تعلموا الطيران حديثًا. وأثبتت الطائرات قيمتها بسرعة من خلالالمهمات الإستطلاعية التي قامت بها وكذلك الأمر في توجيه نيران المدفعية. وبدأ الطيَّارون الهجوم والقصف ضد قوات العدو البريَّة. في عام 1916 قاتلت أساطيل جوية كبيرة بغية السيطرة على المجال الجوي فوق ميادين القتال مثل تلك التي وقعت في معركة فردان. وضرب الألمان مثالًا سرعان ما اتبعته دول مُحاربة أخرى، تمثل في مهاجمة المدن خلف خطوط العدو بالطائرات المقاتلة، وبنهاية الحرب استخدمت القوات الجوية آلافًا من الطائرات الكبيرة المتطورة فنيًّا. وفاقت أعداد الطيَّارين كل التوقعات، ففي أغسطس من عام 1914 كان لدى هيئة الطيران الملكية البريطانية (RFC) وخدمة النقل الجوي البحرية الملكية الموازية (RNAS) ألفان من الضباط والجنود مقسمين بينهما. وفي أبريل 1918 دُمجت الوحدتان العسكريتان في قوة واحدة وهي القوة الجوية الملكية. وفي فترة الهدنة تفاخرت القوة الجوية البريطانية بوجود أربعة عشر ألف طيَّار مدرب معزَّزين بأكثر من مئتين وخمسين ألف جندي من الجنسين.[393]
في 23 أكتوبر 1911 استُخدمت الطائرات الثابتة الجناحين عسكريًّا لأول مرة في ليبيا أثناء الحرب العثمانية الإيطالية للإستطلاع، وسرعان ما تبع ذلك إسقاط القنابل منها وفي السنة التي بعدها تم استخدامها للتصوير الجوي للمنطقة لمعرفة تحركات العدو. وبحلول عام 1914، كانت فائدتها العسكرية واضحة. كانت تُستخدم في البداية للمهمات الإستطلاعية وللهجوم الأرضي. ومن أجل اسقاط طائرات العدو طُوِّرت الدفاعات الجوية والطائرات المُقاتلة. اخترع الألمان والبريطانيونقاذفات القنابل الإستراتيجية، كما استعمل الألمان منطاد زبلين مع قاذفة القنابل.[394] مع قرب نهاية الحرب 1918 استُخدمت لأول مرة حاملات الطائرات.[395]
كان منطاد الإستطلاع يحلق فوق الخنادق للإستطلاع وللإبلاغ عن تحركات العدو وتوجيه المدفعية نحوهم. كان المنطاد يحمل طاقمًا مكونًّا من جنديين مجهزينبمظلتين للهبوط (parachutes[396] في حالة إذا كان هناك هجوم جوي عليهما من العدو، يستطيعان الهبوط بالمظلة إلى بر الأمان. في ذلك الوقت، كانت المظلات ثقيلة جدَّا عند استخدامها من قبل الطيارين، والمظلات ذات التصميم الأصغر لم يتم تطويرها حتى نهاية الحرب. لقد عارض استخدامها القادة البريطانيون لأنهم قلقوا من أنها تُعزز الجبن عند الجنود أثناء القتال في المعارك.[397]
كانت المناطيد أهداف هامة لطائرات العدو لكونها منصات مراقبة لتحركاتهم. وللدفاع عن أنفسهم ضد الهجوم الجوي من العدو كان منطاد الإستطلاع محمي بشدة عن طريق المدافع المضادة للطائرات وكذلك فإن الطائرات التابعة لها كانت تحرسها من أي هجوم جوي من قبل قوات العدو. لقد استُخدمت أسلحة غير اعتيادية لإسقاط المناطيد مثل الصواريخ. وبالتالي فقد ساهم منطاد الإستطلاع في تطوير القتال الجوي بين جميع أنواع الطائرات. أيضًا تسبب ذلك في جمود القتال في الخنادق لأنه كان من المستحيل نقل أعداد كبيرة من المقاتلين دون أن يتم الكشف عنهم. أجرى الألمان غارات جوية على إنجلترا خلال عامي 1915 و 1916 باستخدام المناطيد آملين في ذلك تدمير معنويات البريطانيين ولتوجيه الطائرات من الخطوط الأمامية. كانت النتيجة هو ظهور حالات الذعر بين المواطنين وقد أدَّى ذلك إلى تسريب عدة أسراب من المقاتلين من فرنسا.[394][397]
كان الغرض الأساسي من الطائرات في حرب الخنادق الإستطلاع ومراقبة المدفعية. وكان الإستطلاع الجوِّي له دور كبير جدًّا في فضح حركات العدو، وقد نتج عن ذلك جمود القتال في الخنادق بسبب تلك الطائرات.[398] أُستخدم الحمام الزاجل كذلك في المراقبة الجوية العسكرية في الحرب العالمية الأولى[399] وقد عُرفت هذه بحمام التصوير الفوتوغرافي، يحمل فيها الحمام كاميرا مصغَّرة بمؤقت.[400][401] استُخدمت في معركة فردان، وبعد أن أثبتت فائدتها استُخدمت على نطاق أوسع في معركة السوم.[399] ولكن بعد انتهاء الحرب، ذكر تحقيق وزارة الحرب لمخترع هذه الفكرة خوليوس نيوبرونر بأن استخدام الحمام في التصوير الجوي لم تكن له قيمة عسكرية.[402]
جرائم الحرب
حوادث بارالونغ
في 19 أغسطس 1915 غرقت الغواصة الألمانية U-27 من قبل السفينة الحربية البريطانية HMS Baralong، وقد أُعدم جميع الألمان الناجين من الغواصة من قبل طاقم السفينة البريطانية بارالونغ بناءً على أوامر من الملازم غودفري هربرت ربَّان السفينة الحربية. أُرسل ذلك التقرير إلى وسائل الإعلام من قبل المواطنين الأمريكيين اللذين كانوا على متن Nicosia وهي سفينة شحن بريطانية محمَّلة بالإمدادات الحربية التي تم إيقافها من قبل U-27 قبل دقائق من وقوع الحادث.[403]
في 24 سبتمبر، دمَّرت بارالونغ السفينة الألمانية U-41 التي كانت تعمل على إغراق سفينة شحن Urbino وفقًا لما قاله قائد الغواصة كارل جويتز. استمرت بارالونغ في رفع العلم الأمريكي بعد إطلاق النار على U-41 ثم قامت بالإصطدام بقارب النجاة الذي كان يحمل الناجين من الغواصةالألمانية لإغراقه.[404]
إتش إم إتش إس اندوفري كاسيل
في 27 يونيو 1918 تعرضت سفينة المستشفى الكندي HMHS Llandovery Castle للنسف من قبل الغواصة الألمانية SM U-86 منتهكًة بذلك القانون الدولي، وقد نجا من هذه الحادثة 24 من أصل 258 من الطاقم الطبي من الأطباء والممرضات والمرضى وطاقم السفينة. وقد قال الناجين أن غواصة من فئة يو بوت قد ظهرت من أسفل وبدأت بإطلاق النار على قوارب النجاة. إتُّهم قبطان غواصة اليو بوت Helmut Patzig بإرتكاب جرائم الحرب بعد انتهاء الحرب ولكنه هرب إلى غدانسك التي كانت خارج اختصاص المحاكم الألمانية.[405]
الأسلحة الكيميائية في الحرب
استخدمت الغازات السامة كسلاح من قبل قوات الإمبراطورية الألمانية في 31 يناير 1915 في معركة بوليمو، واستخدمها بعد ذلك جميع القوات المتحاربة خلال الحرب العالمية الأولى. وتشير التقديرات إلى أن الأسلحة الكيميائية التي استخدمها كلا الجانبين طوال فترة الحرب ألحقت خسائر مقدارها 1.3 مليون. فقد خسر البريطانيون أكثر من 180,000 إصابه بسبب الأسلحة الكيميائية خلال الحرب. أما الخسائر الأمريكية فقد وصلت خسائرها إلى الثُلث بسبب الغازات الأخرى وغاز الخردل، بينما خسر الجيش الروسي ما يقرب من 500,000 إصابة بسبب الأسلحة الكيميائية في الحرب العالمية الأولى.[406] كان في استخدام الأسلحة الكيميائية إنتهاك مباشر لاتفاقيتا لاهاي بشأن الغازات السامة اللتان تحظران استخدامها.[407][408]
لم تقتصر الغازات السامَّة على المُقاتلين بل وصلت أيضًا للمدنيين في المدن بسبب أن الرياح كانت تنقلها إليهم. وكان من النادر أن يكون للمدنيين جهاز إنذار يُنذرهم عن هذه الغازات، إضافة إلى أنظمة الإنذار السيئة لم يستطع المدنيين الحصول على أقنعة غاز فعَّالة تقيهم منها. تشير التقديرات إلى أن عدد الضحايا من المدنيين بسبب الغازات السامة قد وصلوا من 100,000 إلى 260,000 في هذه الحرب جنبًا إلى جنب مع الآلاف من الضحايا العسكريين، جميعهم ماتوا بسببها، لقد تسبب الغازات السامة في إصابتهم بتقرح في الرئتين، تلف الجلد وضرر الدماغ في السنوات التي تلت إنتهاء الحرب. عرف كثير من القادة العسكريين على كلا الجانبين أن مثل هذه الأسلحة من شأنها أن تسبب ضررًا كبيرًا للمدنيين بسبب الرياح التي تنقل الغازات السامة إلى البلدات القريبة ولكن مع ذلك فقد واصلوا إستخدامها طوال فترة الحرب. كتب المشير البريطاني السير دوغلاس هيج في مذكراته:[409][410][411][412]
«كنتُ أنا والضباط على علم بأن هذا السلاح من شأنه أن يسبب ضررًا للنساء والأطفال الذين يعيشون في البلدات القريبة، كما أن الرياح كانت قوية في جبهة القتال، ومع ذلك، فلأن هذا السلاح كان موجَّهًا للعدو لم يزدد قلق أحد منَّا على الإطلاق»
.
الإبادة الجماعية والتطهير العرقي
التطهير العرقي الذي قامت به الدولة العثمانية ضد الأرمن بما في ذلك الترحيل الجماعي والإعدام خلال السنوات الأخيرة من الدولة العثمانية يعتبرإبادة جماعية.[414] كان الشعب الأرمني بالنسبة للدولة العثمانية هو العدو[415] لأنه اختار الجانب الروسي في بداية الحرب العالمية الأولى.[416] في بداية عام 1915، انضم عدد من الأرمن للقوات الروسية، فاستخدمت الدولة العثمانية هذا كذريعة في إصدارها لقانون الترحيل. خوَّل هذا القانون للأرمن بالرحيل من المقاطعات الشرقية للدولة العثمانية إلى سورية بين الأعوام 1915 و1917. العدد الدقيق للوفيات غير معروف لذا هم من 250,000 إلى 1.5 مليون قتيل أرمني.[417] بينما قدَّرت الرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية بأن عددهم أكثر من مليون.[414][418] رفضت الحكومة التركية الإعتراف بهذه المذبحة بحجة أن أولئك الذين لقوا حتفهم كانوا ضحايا القتال العرقي والمجاعة أو بسبب مرض أثناء الحرب العالمية الأولى.[419] وهناك مجموعات عرقيات أخرى لقيت حتفها مثل السريان واليونانيين، وينظر بعض العلماء في هذه الأحداث بأنها جزء من نفس سلسلة الإبادة.[420][421][422]
الإمبراطورية الروسية
انتشر الإضطراب الاجتماعي والعنف (البوغروم) على نطاق واسع أثناء الثورة الروسية عام 1917 والحرب الأهلية الروسية التي تلت الحرب العالمية الأولى، فقد تسببت الأخيرة بأكثر من 2,000 مجزرة في الإمبراطورية الروسية السابقة وقد كان أكثرها في أوكرانيا.[423] ويقدَّر بأن 60,000 إلى 200,000 من اليهود المدنيين قد قتلوا في تلك المجازر.[424]
اغتصاب بلجيكا
عامل الغزاة الألمان أي مقاومة - مثل تخريب خطوط السكك الحديدية - بأنها غير قانونية وغير أخلاقية. فأطلقوا النار على المجرمين وحرقوا المباني للإنتقام. بالإضافة إلى ذلك، فإنهم قد مالوا للشك في أن معظم المدنيين هم قوات غير نظامية وسوف يقومون بحرب عصابات، ووفقًا لذلك فقد أخذوا الرهائن وقتلوا السكان المدنيين، وأحرقوا المنازل في شرق ووسط بلجيكا، في مدينة أراسكوت (156 قتيل)، دينانت (674 قتيل)، أندين (211 قتيل) وسامبرفيل (383 قتيل).[425] وقد كان من بين الضحايا أطفال ونساء.[426]
بين شهري أغسطس ونوفمبر أعدم الجيش الألماني أكثر من 6,500 شخص من المدنيين الفرنسيين والبلجيكيين، كان عادة بشكل إطلاق نار عشوائي بأوامر من ضباط ألمان ذو رُتب عسكرية متدنية. في 25 أغسطس 1914 دمَّر الجيش الألماني مابين 15,000 إلى 20,000 من المباني وكان أشهر ما دُمِّر مكتبة الجامعة في لوفان فقد أحرقوها بالبنزين وأحرقوا معها 300,000 من الكتب والمخطوطات من القرون الوسطى التي كانت موجودة فيها،[427] وتسببوا بمقتل 248 شخص. وبسبب تلك الإعتداءت والقتل زاد عدد اللاجئين الذين وصل عددهم إلى أكثر من مليون شخص.[428] شُحن الآلاف من العمَّال إلى ألمانيا للعمل في المصانع، وبسبب كل ماحدث انتشرت دعاية بريطانية عن اغتصاب بلجيكا (The Rape of Belgium) وقد جذب ذلك إهتمام الولايات المتحدة، بينما قال المتحدث الرسمي في برلين إن ماقاموا به هو أمر مشروع وضروري بسبب تهديد القوات الغير نظامية من المدنيين؛ مثل تلك العصابات التي كانت موجودة في فرنسا عام 1870.[429] أسهبت بريطانيا في تقاريرها عن هذا الوضع ونشرتها داخل المنازل والولايات المتحدة، وقد كان لهذه التقارير الدور الرئيسي في حلِّ الدعم لألمانيا.[430][431]
تجارب الجنود
في بداية الحرب كان الجنود البريطانيين هم أشخاص متطوعين للخدمة ولكن بعد ذلك ومع استمرار الحرب تمَّ تجنيدهم إجباريًّا. بعدما عاد الجنود الباقين على قيد الحياة من قدامى المحاربين إلى ديارهم، كان كثيرًا ما ناقشوا تجاربهم في هذه الحرب فيما بينهم وشكَّلوا "مجموعات المحاربين القدامى".
أسرى الحرب
أثناء الحرب استسلم حوالي ثمانية ملايين من الرجال ووُضعوا في معسكرات لأسرى الحرب. لقد تعهدت جميع الدول بتنفيذ اتفاقيتا لاهاي بشأن المعاملة العادلة لأسرى الحرب. وعمومًا فقد كانت معدلات الحياة في معسكرات أسرى الحرب أعلى بكثير من أقرانهم في الجبهة.[432] كان حول المعسكر أسلاك شائكة بطول ثلاثة أمتار وكانت الأسلاك متباعدة خمسة عشر سنتيمترات، وعمود خشبي في كل ثلاثة أمتار وبجانب الأسلاك الشائكة كل خمسين سنتيمتر لتُشكل بذلك شبكة لايمكن عبورها.[433] في عام 1915 سُجن الأسرى من الضباط في مُخيمات خاصة بهم، وبحلول أكتوبر عام 1918 وصل عدد معسكرات الضباط إلى 73 مُعسكر.[434]
بلغ عدد الجنود الألمان المسجونين إلى أكثر بقليل من سبعة ملايين.[435] بينما وصل عدد الجنود الأسرى من قوات الحلفاء اللذين قُبض عليهم الألمان إلى حوالي 2,400,000،[436]
في حصار موبيج استسلم 40,000 جندي فرنسي، وفي معركة غاليسيا أخذ الروس مابين 100,000 إلى 120,000 من الرهائن النمساويين. في هجوم بروسيلوف استسلم مابين 325,000 إلى 417,000 من الجنود الألمان والنمساويين للقوات الروسية. في معركة تاننبرغ استسلم 92,000 من الجنود الروس للقوات المنتصرة. عندما تم حصار كاوناس في عام 1915 أصبح 20,000 من الجنود الروس سُجناء. وفي معركة كانت بالقرب من Przasnysz (فبراير– مارس 1915) استسلم 14,000 من الألمان إلى الروس. في معركة المارن الأولى استسلم 12,000 ألماني إلى قوات الحُلفاء. 25–31% هي خسارة الروس (من المُعتقلين، الجرحى والقتلى) كان عدد سجنائها كالتالي؛ 32% عند النمسا والمجر، 26% لإيطاليا، 12% لفرنسا، 9% لألمانيا و7% لبريطانيا. بلغ مجموع سُجناء دول الحُلفاء 1.4 مليون سجين. ذكرت بعض الأبحاث أن عدد السُجناء الروس كان 2,417,000 رجل، ومن دول المركزحوالي 3.3 مليون رجل، كانوا قد استسلموا للقوات الروسية.[437]
كان في قبضة ألمانيا 2.5 مليون سجين وروسيا كان لديها 2.2–2.9 مليون سجين، بينما كان لدى بريطانيا وفرنسا 720,000 سجين. كان مُعظم السُجناء قد أُلقي القبض عليهم أثناء الهُدنة. أمَّا الولايات المتحدة ففي قبضتها 48,000 سجين. كانت هناك لحظات خطيرة يتلقَّاها الجنود المستسلمين وهو إطلاق الرصاص عليهم حتى بعد استسلامهم.[438][439] كانت الظُروف مُرضية لسجناء المُعسكر (وهي أفضل بكثير من ظروف السجناء في الحرب العالمية الثانية) بسبب جهود اللجنة الدولية للصليب الأحمر وعمليات التفتيش التي تقوم بها الدول المُحايدة للمُعسكرات. ومع ذلك فقد كانت الظروف مروعة في روسيا؛ فقد كان الموت جوعًا شائع بين السجناء والمدنيين، مات حوالي 15–20% من السجناء في روسيا (بعض التقارير الأخرى تقول 2.5% هو نسبة موتى السجناء بسبب المجاعة). وفي دول المركز حكم على 8% من السجناء الروس بالسجن المؤبد.[440] أما في ألمانيا فقد كان الطعام نادر ومات 5% من السجناء.[441][442][443]
عاملت الدولة العثمانية الأسرى في كثير من الأحيان معاملةً سيئة،[444] كان 11,800 من جنود الإمبراطورية البريطانية مُعظمهم من الهنود اللذين تم أسرهم في شهر أبريل 1916 بعد حصار الكوت في بلاد الرافدين، مات منهم 4,250 في معسكرات الأسر.[445] مع أن العديد منهم كانوا في حالة سيئة حينما أُسروا إلا أن الضباط العُثمانيين قد أجبروهم على المسير 1,100 كيلومتر (684 ميل) إلى الأناضول. وقد قال أحد الناجين منهم: «كنَّا نسير جنبًا إلى جنب كالبهائم، ولانتوقف إلا للموت».[446] بعد ذلك أُجبر الناجين منهم على العمل في بناء خط سكة حديدية من خلال جبال طوروس.
في حين أن سجناء الحُلفاء لدى دول المركز قد أُرسلوا إلى منازلهم بعد إنتهاء الأعمال العدائية، إلا أنه لم يُمنح سجناء دول المركز لدى الحُلفاء وروسيا نفس هذه المعاملة، فقد أُجبر العديد منهم على العمل القسري؛ مثل العمل في فرنسا إلى عام 1920. ولم يُفرج عنهم إلا بعد اتصالات عديدة قام بها الصليب الأحمر للمجلس الأعلى لقوات الحُلفاء.[447] بقي السُجناء الألمان مسجونون في روسيا إلى عام 1924.[448]
المراسليين الحربيين
تأثَّرت التغطية الإعلامية للحرب بسبب القيود المفروضة من قبل المراقبين والرقابة الصارمة التي يحصل عليها المراسلين الإعلاميين. لقد أثار هذا التساؤل حول الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في إختيار أخبار مثل أخبار هذه الصراعات.[449]
الأطباء العسكريون
كانت جميع الدول المتحاربة بحاجة ماسة إلى الأطباء على الجبهة، لهذا قامت الحكومات بسحب أعداد كبيرة من الأطباء العاملين في القطاع المدني إلى القطاع العسكري. تمَّ تعبئة أكثر من نصف الأطباء في الجزر البريطانية (14 ألف طبيب من أصل ما مجموعه 25 ألف). وفي ألمانيا قامت الحكومة باستدعاء عدد زكبر من الأطباء للخدمة: زهاء 80٪ من أطباء ألمانيا البالغ عددهم 33 ألف طبيب تم استدعاؤهم للخدمة العسكرية.[450]
عرَّض الطب العسكري حياة الأطباء إلى الخطر في لحظات القتال. فقد واجه الضباط الطبيون اللذين عُين،ا كجراحين القصف المدفعي وقنابل الغاز والهجمات الجوية التي واجهها الجنود على خط الجبهة. في وقت مبكر من عام 1915 قتلت غازات القنابل الألمانية وشوهت الأطباء البريطانيين وزملائهم المتطوعين الأمريكيين في مخيمات القواعد العسكرية على طول بحر المانش. وفي العامين الأخيرين للحرب، وضعت الغارات الجوية الألمانية المكثفة على الخطوط الدفاعية البارزة في إيبر والمناطق الخلفية مثل قاعدة إتابل حياة الكوادر الطبية في خطر دائم. ففي 30 مارس 1918 ضربت القنابل الألمانية المستشفى الكندي الثابت في دولان مما أدى لمقتل فريق طبي كامل مكون من طبيبين وثلاث ممرضات. وقد قُتل 800 طبيب عسكري ألماني خلال الحرب، وزهاء ألف من نظرائهم البريطانيين. ونتجت معظم هذه الوفيات عن عمل الأطباء في خطوط الجبهة.[451]
أدى الحصار الذي فرضه الحلفاء والضغوطات الاقتصادية اللاحقة على ألمانيا، سلسلة خاصة من المصاعب بالنسبة إلى الأطباء الألمان. إذ تطلب العلاج الفعَّال لضحايا الغنغرينا الغازية تغييرًا كاملًا للملابس والمعدات، ولكن ذلك كان مستحيلًا في كثير من الأحيان. وبحلول عام 1918 لم يكن لدى الأطباء سوى ضمادات ورق كريبي رقيقة لتغطية الجروح. وبدلًا من القطن الطبي لم يكن هناك سوى نوع من ورق السليولوز الذي وصفه أحد الأطباء العسكريين بالقول
«إنه يتشرب الدم والصديد بسرعة شديدة ويذوب حتى يصبح كتلة رطبة نتنة.[451]»
كما أن القفازات الجراحية لم تعد مُتاحة، وحتى الصابون شحَّ وجوده. وكان على الجراح أن يُخاطر بحياته في معالجة جرح ملوث متسخ عندما يفرك يديه بالصابون الرملي، (خليط من ثلاثة أجزاء رمل مقابل جزء صابون)، قبل العملية وبعدها. وعندما اجتاحت القوات الألمانية المواقع البريطانية في ربيع 1918، أُصيب الأطباء بالذهول عندما وجدوا صناديق مكدَّسة من مواد الإسعاف، وآلافًا من الضمادات والقطن الطبي الأصلي وكميات كبيرة من الشاش الطبي.[451] كما أعاق نقص سيارات الإسعاف إجلاء الجرحى الأمريكيين أثناء معركة ميوز ومعركة غابة أرجون. كانت السلطات الطبيَّة قد أخطزت عندما قدَّرت المسافة التي يستوجب على المصابين الأمريكيين قطعها بما لا يزيد عن عشرين ميلًا. بمجرد بدء المعركة احتاج الكثير من الجنود الأمريكيين المصابين إلى وسيلة نقل عاجلة لحملهم إلى أماكن أكثر بُعدًا. مما استوجب الدفه بالحافلات السياحية الفرنسية لسدِّ الفجوة.[452]
التأييد والمعارضة للحرب
التأييد
في البلقان، أيَّد السياسي اليوغوسلافي أنتي ترومبيك الحرب العالمية الأولى رغبًة منه في تحرير يوغوسلافيا من حكم الإمبراطورية النمساوية المجرية لإنشاء دولة يوغوسلافية مستقلة.[453]أُنشئت اللجنة اليوغوسلافية بقيادة ترومبيك في 30 أبريل 1915 في باريس ولكن بعد فترة قصيرة نقلت مقرها إلى لندن.[453] في أيريل 1918 اجتمع مجلس روما للقوميات المضطهدة من بينهم ممثلين من تشيكوسلوفاكيا، الطليان، بولنديون، ترانسيلفانيا ويوغوسلافيا في حث الحلفاء ليدعموا لهم حق تقرير المصير للشعوب المقيمة في الإمبراطورية النمساوية المجرية.[454]
في الشرق الأوسط، ارتفعت القومية العربية في الأراضي العثمانية ردًّا على صعود القومية التركية خلال الحرب، فقد أيَّد زعماء القوميات العربية هذه الحرب ودعوا إلى إقامة دولة عربية.[455]في عام 1916 بدأت الثورة العربية الكبرى في الأراضي التي كانت تُسيطر عليها الدولة العثمانية في الشرق الأوسط في محاولة لتحقيق الاستقلال.[455] الحزب الليبرالي الإيطالي تحت قيادةباولو بوسيللي روَّج التدخل بجانب الحلفاء في هذه الحرب، وقد استخدم جمعية دانتي أليغييري لتعزيز القومية الإيطالية.[456]
كان هناك عدد من الأحزاب الاشتراكية التي أيَّدت الحرب عندما بدأت في أغسطس 1914.[454] ولكن الاشتراكيين الأوروبيين قد انقسموا مع مبدأ صراع الطبقات الاجتماعية الذي عُقد من قبل الاشتراكيين المتطرفين مثل الماركسيين ومذهب النقابية.[457] حالما بدأت الحرب دعمت القوميات في كلًا من: النمسا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا وروسيا الاشتراكية، تدخل بلدانهم في هذه الحرب.[458] انقسم الإشتراكيين الإيطاليين بين دعم الحرب ومعارضتها؛ كانت بعضهم مؤيد بشدة للدخول في الحرب من بينهم بينيتو موسوليني وليونايدا بسولاتي.[459] ولكن الحزب الاشتراكي الإيطالي قرر مُعارضة الحرب بعد مقتل متظاهرين مناهضين للحرب، وكنتيجة لذلك بدأ إضراب عام لمدة أسبوع في إيطاليا وقد أُطلق على هذا الإضراب بالأسبوع الأحمر (Red Week).[460]
أُثيرت القومية الإيطالية قبل إندلاع الحرب، وكانت قوية في بدايتها بسبب الدعم القوي من مجموعة متنوعة من الفصائل السياسية. كان غابرييل دانونزيو واحدًا من أنصار القومية الإيطالية البارزين المؤيدين للحرب اللذين روجوا لحركة إيطاليا ايريدينتا وساعد في التأثير على الشعب الإيطالي ليدعموا التدخل في الحرب.[461] تخلص الحزب الإشتراكي الإيطالي من أعضاء القومية الإيطالية المؤيدين للحرب وكان من بين اللذين تم التخلص منهم موسوليني.[460] كان موسوليني من مذهب النقابية الذي أيَّد الحرب على أساس حق المطالبة على المناطق الإيطالية التي كانت من ضمن الإمبراطورية النمساوية المجرية،[462] استطاع موسوليني بسبب قوميته الكبيرة من جمع الأموال من شركة التسلح Ansaldo وشركات أخرى ليُنشئ صحيفة Il Popolo d'Italia وكان الغرض منها إقناع الاشتراكيين والثوريين بدعم دخول إيطاليا للحرب.[463]
المعارضة
إنتُخب بندكت الخامس عشر ليكون البابا في أقل من ثلاثة أشهر في الحرب العالمية الأولى، جاعلًا تركيزه على الحرب ونتائجتها من أولوياته التي عليه أن يهتم بها، وكان هذا الإهتمام متناقضًا مع سلفه بيوس العاشر.[464] تضمنت معاهدة لندن التي تم توقيعها في عام 1915 بين إيطاليا والحلف الثلاثي شروطًا سرية، حيث اتفق الحلفاء مع إيطاليا بتجاهل تحركات السلام البابوي التي يقوم بها بندكت الخامس عشر تجاه دول المركز. وبالتالي، تم تجاهل منشور السلام المقترح من قبل بندكت الخامس عشر الذي احتوى على سبع نقاط للسلام أصدرها في 1 أغسطس 1917، وقد رفضتها جميع الأطراف باستثناء النمسا والمجر.[465]
سجنت العديد من البلدان المفكرين اللذين شاركوا في نشاطات سلمية ضد هذا الصراع من بينهم يوجين فيكتور دبس في الولايات المتحدةوبيرتراند راسل في بريطانيا. في الولايات المتحدة أُصدر قانون التجسس لعام 1917 و قانون التحريض جاعلًا من ذلك جريمة فدرالية في أي معارضة للتجنيد العسكري أو الإدلاء بأي تصريحات يُعتبر "خائن" للبلاد. أُزيلت جميع المنشورات التي تنتقد الحكومة من التداول عن طريق مراقبة المطبوعات.[230]
عارض العديد من القوميين التدخل في الحرب خاصة داخل الدول التي كان القوميين معادين لها. مع أن الغالبية العُظمى من الشعب الإيرلندي وافق على المشاركة في الحرب في عامي 1914 و 1915 كانت هناك أقلية متقدمة من القوميون الإيرلنديون اللذين عارضوا بشدة المشاركة في الحرب.[466] بدأت الحرب في ظل أزمة الحكم الذاتي في أيرلندا التي عادت إلى الظهور في عام 1912، في يوليو 1914 كانت هناك احتمالية كبيرة لإندلاع حرب أهلية في أيرلندا.[467] فقد سعى القوميون والماركسيون الأيرلنديون متابعة استقلال إيرلندا وقد بلغت الأزمة ذروتها في ثورة عيد الفصح في عام 1916 عندما أرسلت ألمانيا 20,000 من البنادق إلى إيرلندا لإثارة الإضطرابات في بريطانيا.[467] بسبب هذه الثورة وضعت الحكومة البريطانية إيرلندا تحت الحكم العرفي.[468] أُعدم 15 قائدًا من أصل 16 بالرصاص من قبل السلطات البريطانية تحت قانون الحكم العُرفي. غالبًا ما استُشهد هذا الإعدام بإعتباره السبب في تصعيد الرأي العام في إيرلندا بعد فشل التمرد.[469]
جاءت مُعارضة من نوع آخر وهم الرافضين للخدمة العسكرية -بعضهم كان اشتراكيًّا وبعضهم كان من المتدينين- الذين رفضوا القتال. في بريطانيا 16,000 من الناس قد طلبوا رفض الخدمة العسكرية.[470] كان من بين الرافضين أبرز نُشطاء السلامستيفن هوبهاوس الذي رفض الخدمة العسكرية والخدمة المدنية البديلة.[471]
بدأت ثورةآسيا الوسطى في صيف عام 1916 عندما استثنت حكومة الإمبراطورية الروسية المسلمين من الخدمة العسكرية.[472]
في شهر مايو من عام 1917، في مدينة ميلان نظمت وشاركت الثورات البلشفية في أعمال شغب تدعو لوضع حد للحرب، وقد تمكنت من إغلاق المصانع ووقف وسائل النقل العام.[473] أُجبر الجيش الإيطالي على دخول مدينة ميلان مع الدبابات والرشاشات لمواجهة البلاشفة واللاسلطوييناللذين قاتلوا بعنف حتى 23 مايو بعدما سيطر الجيش على المدينة. قُتل 50 شخصًا من بينهم ثلاثة من الجنود الإيطاليين واعتُقل أكثر من 800 شخص.[473]
في سبتمبر 1917، بدأت قوة المشاة الروسية في فرنسا بالتساؤل في سبب قتالهم من أجل الفرنسيين، نتيجة لذلك بدأ تمرُّد الجنود.[474]
التجنيد
وقعت أزمة التجنيد في كندا عندما وضع روبرت بوردن الخدمة العسكرية الإجبارية من خلال قانون الخدمة العسكرية في كندا، رغم اعتراض مواطني مقاطعة كيبك الناطقين بالفرنسية.[475] أدى ذلك إلى إندلاع فجوة سياسية بين الفرنسيون الكنديون الذين كانوا يؤمنون أن الولاء الحقيقي يجب أن يكون لكندا وليس للإمبراطورية البريطانية، بينما كان رأي أعضاء الأغلبية الناطقة باللغة الإنجليزية في المدن الكندية الأخرى رأوا أنه من الواجب عليهم الخدمة العسكرية لبريطانيا وكندا في هذه الحرب. من أصل حوالي 625,000 من الكنديين اللذين خدموا في العسكرية قُتل منهم 60,000 وأُصيب 173,000.[476]
أدى التجنيد في بريطانيا إلى استدعاء كل رجل لائق بدنيًّا للخدمة العسكرية، أظهرت النتائج أن 6 من أصل 10 ملايين رجل كان لائق بدنيًّا. قُتل 750,000 جندي بينما وصل عدد المصابين إلى 1,700,000 جندي. كان أغلب اللذين قُتلوا صغارًا في السن أو لم يتزوجوا بعد. خسرت 160,000 من الزوجات أزواجهن اللذين خدموا في العسكرية و 300,000 من الأطفال قد فقدوا آبائهم.[477]
جنود صغار
كانت الصور لجندي صغير مقتول موجودة في كل مكان وفي أي معركة وأي مكان مثل الجبهة الشرقية. ففي روسيا بالكاد كان هناك مدرسة أو بلدة لم يخرج منها الأطفال للخدمة العسكرية. إضافًة إلى الفتيات والأولاد الروس اللذين كانت أعمارهم مابين 16 و17 فقد كان من بين الجنود الصغار أطفال كانت أعمارهم 11 و12 سنة قد انضموا للخدمة العسكرية أو التمريض.[478]
وفقًا للاعتقاد الشائع فإن أصغر جندي لقوات الحُلفاء كان يُدعى جون كوندون من إيرلندا، وقد كان عمره عندما التحق للخدمة العسكرية 12 سنة. في عام 1915 ذهب جون لينضم إلى الفوج الإيرلندي الملكي في فلاندرز، وفي 24 مايو قُتل بسبب الغازات السامة التي استخدمتها القوات الألمانية بالقرب من إيبر وكان عُمره 14 عامًا. تحقيقات أُجريت عام 2002 تقول أن جون كان عمره 18 عامًا.[478] خلال معركة جوتلاند أُصيب البريطاني جون كوتلاند على متن السفينة الحربية HMS Chester حينما تعرضت للقذائف الألمانية، ومع إصابته فقد استمر بإطلاق النار على الألمان إلى أن مات بسبب إصابته، وقد كان عُمره 16 سنة وأربعة أشهر. في عام 1915 عُثر على 23,000 من الأطفال الصربيين مقتولين في شتاء عام 1915 القارص. طلب قادة صربيا الأطفال الصغار بمغادرة البلاد حتى لايقبض عليهم الألمان والنمساويون والبلغاريون. كانت أعمار هؤلاء الجنود الصغار مابين 12 و18 سنة ولم يستطع الأغلبية منهم تحمل الطقس البارد والجوع ومشقة الرحيل بسبب الهجمات المستمرة من قبل المغيرين الألبان. 15% من الجنود الألمان المتطوعين كانوا طلَّابًا و متخرجون من الثانوية العامة.[478]

فيكتور سيلفتر المولود في عام 1900، قال في آخر مقابة له في عام 1978 عن وضعتلقيه الأوامر لقتل الجندي الصغير الذي فرَّ من الجندية:«عندما كُنت أصوِّب إليهكانت الدموع تنزل إلى خدَّي بينما كان الضحية يحاول فك قيده المربوط على الكرسيللفرار، أطلقت النار وعندما زال دخان البندقية كنَّا مرعوبين من رؤية النتيجة، لقدأُصيب الرجل وهو على الكرسي المربوط فيه ولم يمت، فجاء ضابط وتقدم للأمام ليُنهىهذا الوضع فوضع المسدس على صدغ الرجل. لم يبكي الجندي الصغير سوى مرةٍ واحدة وصرخبكلمة واحدة "أمِّي". لم يكن ذلك الجندي الفَّار أكبر مني وقد قيل لنافي وقت لاحق أنه كان يُعاني من صدمة نفسية بسبب القذائف. شاركت في وقت لاحق بعمليةإعدام لأربعة آخرين».[478]





تعليقات